فلسطين: من التقسيم إلى التطهير – سردية تعيد إنتاج نفسها

0 145

 

بقلم: محمد الغيث ماء العينين

مقدمة

لم يُختر هذا العنوان من اجل جمالية ادبية،بل لأنه يختزل في كلماته التسع قصةً طويلة من إنتاج الظلم السياسي بلغة القانون الدولي، ومن إعادة تدوير نفس الرواية، رغم تغيّر السياقات والأزمنة.

فعام 1947 لم يكن مجرد لحظة أممية طُرحت فيها فكرة التقسيم، بل كان تدشينًا لمسار تاريخي تجاهل حق السكان الأصليين في تقرير مصيرهم،
وتم تقسيم الأرض على حساب أهلها، حيث مُنح الوافدون الطارئون أهم المدن وأغلب المساحة الإجمالية للإقليم، في تجاوز صارخ لمنطق القانون، وشرعية التاريخ، ومبدأ الحق.

وفي العام التالي، 1948، لم تكن النكبة انفجارًا عفويًا، بل كانت النتيجة الطبيعية لتلك المعادلة المجحفة: تهجير جماعي، وتدمير ممنهج لمئات القرى، وسلبُ أرضٍ بأكملها، تحت غطاء دولة “قانونية” وُلدت من رحم قرار دولي.

لكن العنوان لا يقف عند الماضي، لأن المأساة لم تُختم بعد. إن ما نشهده اليوم من تصاعد خطاب اليمين الإسرائيلي، ومن سياسات تقوم على التهديد العلني بتفريغ القدس والضفة الغربية وقطاع غزة من سكانها الفلسطينيين، يعيد إنتاج نفس المنطق:
منطق يرى أن “الحل النهائي” لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تطهير عرقي شامل، لا يطال فقط من هم تحت الاحتلال العسكري، بل يمتد تهديده أيضًا إلى الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها (عرب 48)، والذين تُوجَّه إليهم رسائل ضمنية وصريحة بأن أي تعاطف فعلي مع أهل الضفة وغزة، سيُقابل بالمصير نفسه.

وبذلك، يصبح العنوان بمثابة تحذير: أن ما بدأ بالتقسيم، ومرّ بالتهجير، ماضٍ نحو الإلغاء الكامل إن لم تُقابل “السردية المعاد إنتاجها” بوعي تاريخي، وموقف أخلاقي، وضغط سياسي لا يتواطأ مع الظلم باسم الحياد، ولا يُبرّر الإقصاء باسم الأمن.

1. الحق الفلسطيني: وقائع لا روايات

لطالما جرى تصوير الصراع في فلسطين كأنه تنازع بين روايتين: رواية دينية-تاريخية تستند إلى “الوعد الإلهي” لليهود، ورواية فلسطينية قائمة على النكبة والمقاومة.

غير أن هذا الإطار، رغم حياديته الظاهرة، يُخفي مفارقة خطيرة: فهو يساوي بين رواية دينية تأويلية، وبين واقع موثق بالأرشيفات والسجلات والخرائط والوجود الميداني.

الحق الفلسطيني ليس سردية رمزية، بل حقيقة موثقة تمتد قرونًا في التاريخ، ويدعمها الوجود السكاني والسياسي والاقتصادي المتصل، من العهد العثماني حتى الانتداب البريطاني.

أما “رواية العودة اليهودية”، فهي استعادة مؤدلجة لنصوص دينية تم تسخيرها لخدمة مشروع سياسي أوروبي الطابع، نشأ كرد فعل على مأساة يهود أوروبا، لا نتيجة لصراع محلي في فلسطين.

إن التعاطف مع ضحايا الهولوكوست واجب إنساني، لكن استخدام هذه المأساة لتبرير ظلم جديد لشعب آخر، يُعد خرقًا واضحًا لمنطق العدالة، وتحويلًا للذاكرة إلى أداة هيمنة.

2. من وعد بلفور إلى نكبة 1948:

مسار الهيمنة بصيغة قانونية

وعد بلفور لم يكن مجرد تصريح سياسي، بل بوابة قانونية لصناعة واقع جديد. فقد منحت بريطانيا، وهي قوة احتلال، وطنًا لمن لا يملكونه، على أرض لا تملكها، دون استشارة من يسكنونها.

وقد تُرجِم هذا الوعد إلى سياسات عملية: هجرة واسعة النطاق، وتشكيل ميليشيات عسكرية، ودعم تأسيس مؤسسات موازية للدولة قبل إعلانها.

في عام 1948، تحققت النكبة بوصفها ثمرة منطقية لهذا المسار: تهجير 700 ألف فلسطيني، تدمير 500 قرية، ومحو مجتمع بأكمله من الخريطة.
ومع ذلك، لم تُعامل هذه الجرائم بصفتها جرائم، بل اعتُبر تأسيس إسرائيل “إنجازًا حضاريًا”، في حين حُمِّل الفلسطينيون مسؤولية رفضهم للتقسيم، مع تجاهل السياق الذي فُرض فيه القرار دون رضاهم، وعلى حساب حقوقهم.

3. بين مقاومة مشروعة وتجاوزات مدانة

المقاومة حق مشروع لكل شعب يُرزح تحت الاحتلال، وقد نصّت على ذلك مواثيق دولية عديدة. ومع ذلك، ينبغي الاعتراف أن بعض الفصائل الفلسطينية ارتكبت أعمالًا إرهابية طالت مدنيين، وهو أمر لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة.

بالمقابل، فإن استخدام هذه التجاوزات لتجريم النضال الفلسطيني برمّته، أو لوصف كل مقاومة بأنها “إرهاب”، هو إخلال بالمنطق القانوني والأخلاقي. الاحتلال ليس حالة دفاع شرعي، والمقاومة ليست دائمًا اعتداءً.

وإذا جاز للبعض أن يبرر قصف غزة بـ”ضرورات الأمن”، فسيُبرر آخرون كل شكل من أشكال العنف بـ”ضرورات المقاومة”. وهنا تكمن المعضلة الأخلاقية: لا شرعية لعنف بلا حدود، ولا توازن في محاكمات بلا معيار ثابت.

4. ذاكرة لا تُساءَل: ازدواجية المعايير الغربية

من المفارقات الكبرى أن إسرائيل وُلدت بقرار أممي، ومع ذلك ترفض اليوم الخضوع لقرارات الأمم المتحدة عندما لا توافق مصالحها. وقد نبّه إلى هذه النقطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حين قال إن إسرائيل تأسست بقرار دولي، ويجب أن تظل خاضعة للشرعية الدولية.

وفي المقابل، حين رفض الفلسطينيون قرار التقسيم، مُنحوا عقوبة جماعية: مصادرة الأرض، وتشريد الشعب، وتجريم المطالبة بالحق.

إن التعامل الانتقائي مع القانون الدولي يفتح الباب أمام انهيار شرعية المنظومة الدولية ذاتها.

المشكلة أعمق: فإسرائيل تتمتع ضمن بعض الأوساط الغربية بـ”حصانة أخلاقية” غير مكتوبة، نابعة من عقدة تاريخية تجاه مأساة اليهود في أوروبا.
وهكذا يُعاد تعريف الظلم من خلال من ارتكبه، لا من وُقع عليه، وتُصبح العدالة رهينة الذاكرة لا الواقع.

5. من الإنكار إلى الإنصاف: مخرج أخلاقي وسياسي

ليس من الواقعية الدعوة إلى حل يُقصي أحد الطرفين. لا يمكن محو الوجود الفلسطيني، ولا تجاهل قيام إسرائيل كدولة معترف بها دوليًا.
لكن في المقابل، لا يمكن بناء السلام على إنكار الحقوق، أو على إدارة الصراع بدل حله.

إن المرجعية الوحيدة المقبولة لأي حل مستقبلي يجب أن تكون الشرعية الدولية، وفي قلبها حل الدولتين على حدود 5 يونيو 1967، كما نصت على ذلك قرارات مجلس الأمن، وفي مقدمتها القرار 242.

كل ما دون ذلك هو استمرار في تدوير الأزمة، لا في تفكيكها.

الكرامة لا تُجزأ. والسكوت عن الظلم حين يصيب الآخر، يُفرغ العدالة من مضمونها، ويمنح الشرعية لدوائر جديدة من العنف.

وتاريخ الصراع اثبت ان لا أمن لأحد إن لم يُؤمّن الجميع، ولا عدالة لأحد إن لم تُنصف الحقيقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.