عقدة الشرعية والقطيعة الغائبة: تحليل استراتيجي لنزاع الصحراء
بقلم / محمد الغيث ماء العينين
نائب رئيس المركز المغربي للديلوماسية الموازية و حوار الحضارات
يقدّم هذا التحليل قراءة معمقة لنزاع الصحراء المغربية، مركزًا على جوهر الأزمة التي تتجاوز الخلافات الترابية إلى صراع على الشرعية التاريخية والوجودية.
يستعرض المقال سلسلة “القطائع السيادية” التي أقدم عليها المغرب منذ المسيرة الخضراء، وصولًا إلى عملية الكركرات، كمحطات حاسمة أعادت صياغة الواقع على الأرض وأسست لمعادلات سياسية ودبلوماسية جديدة.
في المقابل، يتناول النص ما يُسمى “القطيعة الغائبة” من جانب الجزائر، تلك القطيعة الضرورية التي لم تحدث بعد، والتي تمثل عبئًا ثقيلاً على مستقبل المغرب الكبير.
يؤكد التحليل أن استمرار العقدة الشرعية الجزائرية هو ما يحول النزاع من مجرد خلاف حدود إلى أزمة وجودية تُعيق بناء مستقبل متكامل في المنطقة.
وختامًا، يدعو المقال إلى ضرورة تجاوز هذه العقدة من خلال قرار سيادي جزائري يعيد بناء الثقة، ويفتح آفاق تعاون وتكامل مغاربي مستدام.
مقدمة: مشكل وجود لا مشكل حدود
في العمق، لا يتعلق النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية بمشكل حدود، بل بمشكل وجود. ليس ترابيًا بقدر ما هو رمزي، لا يتصل فقط بقطعة أرضٍ، بل بتصوّرٍ للشرعية والتاريخ والهوية.
لذلك، فإن المسار الذي اختاره المغرب في تعاطيه مع هذا الملف لم يكن مسار تنازل أو تكيّف، بل مسار قطائع سيادية، أعادت صياغة المعادلة بما يتجاوز منطق الإرث الاستعماري أو مناورات الإنكار.
إن هذه القطائع ليست مجرّد محطات سياسية، بل تحوّلات استراتيجية صنعتها لحظات مفصلية، فرض فيها المغرب تصوّره الخاص للشرعية، وحرّك فيها قواعد اللعبة بقراره السيادي لا بردود فعله. وقد شكلت كل قطيعة تجاوزًا لمنطق معيّن: من الاستعمار إلى السيادة، ومن التقسيم إلى الوحدة، ومن الاستفتاء إلى الحل الواقعي، ومن المعازل الرمزية إلى ممارسة السيادة الميدانية. غير أن القطيعة الأهم لم تحدث بعد، وهي القطيعة الجزائرية الغائبة.
1. القطيعة الأولى – 1975: من الترافع القانوني إلى الفعل السيادي – المسيرة الخضراء
ليست المسيرة الخضراء حدثًا رمزيًا فقط، بل فعل سيادي جماعي، تجاوز واقع الاحتلال الإسباني، وأسّس لانتقالٍ حاسم من الترافع القانوني أمام محكمة لاهاي إلى فرض الشرعية التاريخية على الأرض.
لقد شكّلت المسيرة إعلانًا مغربيًا حاسمًا بأن زمن التفاوض حول ما هو مغربي قد انتهى.
جاءت هذه القطيعة استباقًا لمخططات كانت ترمي إلى تثبيت وجود إسبانيا عبر أشكال التفويض المحلي أو التقسيم، فأنهت تلك المخارج المصطنعة، وفرضت قراءة مغربية لرأي محكمة العدل الدولية، مستندة إلى البيعة والروابط التاريخية، لا إلى مخلفات ترسيم الحدود الاستعمارية.
2. القطيعة الثانية – 1979: من التفاهم الثلاثي إلى استكمال السيادة – استرجاع وادي الذهب
مثّلت زيارة الملك الراحل الحسن الثاني إلى وادي الذهب في 14 غشت 1979 لحظة قطيعة ثانية.
فقد أعلن المغرب عبرها انتهاء المرحلة الانتقالية التي فرضها التفاهم الثلاثي مع إسبانيا وموريتانيا سنة 1975، وأعاد السيادة المغربية إلى كامل التراب المسترجع، رافضًا أي تأويل لتلك المرحلة باعتبارها تقاسمًا للأرض.
لقد آثر المغرب، حينها، ممارسة ضبط النفس، تفهمًا لسياق موريتانيا الداخلي والضغوط الدولية، لكنه لم يتخلّ يومًا عن حقه في وادي الذهب. ولما سنحت اللحظة التاريخية، أنهى منطق التفويض الاستعماري، رافضًا بذلك كل منطق يعيد إحياء آليات مؤتمر برلين أو أطروحة الجزيرة الخضراء، حيث كان الاستعمار يوزّع الجغرافيا على الدول الناشئة، لا على أساس الشرعية بل التوازنات.
3. القطيعة الثالثة – 2007: من استفتاء يراد به التشكيك في السيادة إلى حل سيادي بامتياز – مبادرة الحكم الذاتي
حين قدّم المغرب مبادرته للحكم الذاتي سنة 2007، لم يكن يطلب إذنًا لإعادة تشكيل المعادلة، بل كان يعلن تجاوز منطق الاستفتاء، الذي أثبتت التجربة الأممية استحالته السياسية والميدانية.
فشل مسلسل تحديد الهوية، ورفض المغرب بشكل حازم كل مقترحات التقسيم، بما فيها تلك التي عرضتها الجزائر على جيمس بيكر، كلّها كانت مؤشرات واضحة على أن المغرب لم يعد مستعدًا للقبول بأي حل يمسّ بسيادته أو يشكك في شرعيته.
كانت هذه القطيعة، إذًا، قرارًا سياديًا واعيًا، تحوّل فيه المغرب من موقع الردّ إلى موقع المبادرة، مقدّمًا حلاً واقعيًا، مقبولًا، وذي مشروعية ديمقراطية. وهي قطيعة لم تُبنَ على أنقاض فشل أممي، بل على نجاح مغربي في فرض سيادته ومصداقيته.
4. القطيعة الرابعة – 2020: من الوهم الميداني إلى استعادة السيطرة الرمزية – عملية الكركرات
لم تكن عملية الكركرات مجرد تحرك عسكري محدود، بل قطيعة استراتيجية كاملة.
فقد أسقطت وهم الأراضي المحررة، ونزعت عن الجدار الأمني صفة الحدود الرمزية التي حاول الخصوم ترسيخها.
تحرّك المغرب، حينها، دفاعًا عن حرية التنقل والتجارة، لكن الفعل حمل أبعادًا سيادية ورسائل استراتيجية.
بعد العملية، تغيّر الخطاب الأممي والدولي، وانكشفت عزلة البوليساريو، خاصة بعد تبنّي مجلس الأمن القرار 2548، الذي شكّل إعلانًا ضمنيًا بأن الاستفتاء بات غير عملي وغير واقعي، وأن الحل يجب أن يكون سياسيًا واقعيًا وقابلًا للتطبيق.
هكذا فرض المغرب، مرة أخرى، إعادة تعريف للمفردات: لم يعد هناك حديث عن مناطق محررة، بل عن مناطق عازلة، ولم يعد الجدار نهاية السيادة، بل جزءًا من منظومتها الدفاعية.
القطيعة الغائبة – من عقدة الشرعية إلى قطيعة النضج السياسي
كل القطائع التي أنجزها المغرب، من المسيرة الخضراء إلى الكركرات، أعادت تشكيل الواقع على أسس السيادة والشرعية التاريخية، متجاوزة منطق الخضوع لإرث استعماري مشوَّه أو التعايش مع مناورات الإنكار.
غير أن القطيعة الغائبة، التي لم تحدث بعد، هي تلك القطيعة القادرة وحدها على إعادة تشكيل المستقبل المغاربي برمّته.
إنها القطيعة المنتظرة من الجزائر: قطيعة مع خطاب التشكيك في شرعية المغرب، مع سردية حدود وُضعت في غفلة من التاريخ، ومع هاجس وجودي يجعل من كل اعتراف بالمغرب امتدادًا له، لا اعترافًا به. ما لم تُنجز الجزائر هذه القطيعة مع عقدة الشرعية التي تراكمت منذ الاستقلال، ستظل تقرأ كل أزمة مع المغرب كأنها أزمة وجود، لا خلاف حدود.
وقد تكون هذه القطيعة فعلًا سياديًا ناضجًا تقوده القيادة الجزائرية، يتجاوز منطق التوازنات الهشة نحو منطق المصالح التاريخية المشتركة، أو تُفرَض بوعي جماعي شعبي يُدرك أن لا مستقبل للمنطقة دون مصالحة شجاعة، تتجاوز خنادق الإنكار نحو أفق التكامل والتعايش.
إنها ليست مجرد قطيعة مع الماضي، بل مع سياسة أضاعت نصف قرن في النزاع، وقايضت الحلم المغاربي بصراعات عبثية. إنها القطيعة الغائبة… لكنها القطيعة الحاسمة.