جيل Z المغربي بين العوامل الداخلية والظاهرة العالمية: ثمن اختلال التنمية وتعثر الديمقراطية

0 725

 

 

بقلم / محمد الغيث ماء العينين
نائب رئيس المركز المغربي للديلوماسية الموازية و حوار الحضارات

 

 

 

من نيبال إلى أوروبا، ومن سريلانكا إلى كينيا، ينهض جيل Z كأول جيل رقمي بالكامل، يتغذى على شبكات التواصل ويعيد تشكيل أدوات الاحتجاج والخطاب السياسي.

جيل لم يقرأ المانيفستو الشيوعي، لكنه يتحدث لغة الغضب نفسها؛ لا ينتمي إلى تنظيمات، لكنه يخلق موجات من التمرد يصعب التنبؤ بها أو احتواؤها.

ومع أن هذه الظاهرة عالمية، فإن حضورها في المغرب اكتسب خصوصية لافتة، لأنها جاءت بعد عقد من آمال الإصلاح الدستوري لسنة 2011، وما تلاه من تعثر في تنزيله الديمقراطي، ومن اختلال في ثمار التنمية وتوزيعها العادل.

من نيبال إلى المغرب: الظاهرة تتجدد

في سبتمبر 2025، شهدت نيبال واحدة من أكثر موجات الغضب الشبابي حدة في آسيا، حين خرج الآلاف من جيل Z إلى الشوارع احتجاجًا على الفساد، والمحسوبية، وحظر وسائل التواصل الاجتماعي.

ما بدأ كمطلب لرفع القيود على حرية التعبير تحوّل إلى تمرد شامل ضد النظام السياسي، وسقط فيه قتلى وجرحى، لتكشف الأحداث أن جيل ما بعد الإنترنت لا يحتاج حزبًا أو زعيمًا ليصنع لحظة غضب.

من نيبال إلى فرنسا، مرورًا بسريلانكا، تتكرر السردية نفسها: شباب من جيل Z، وُلدوا في زمن الرقمنة، ينفجرون في وجه بطء المؤسسات.

جيل لا يؤمن بالوساطة، لا يثق في الخطابات، ولا يملك ذاكرة الخوف التي كبّلت من سبقه.

إنه جيل ما بعد الأيديولوجيا، الذي يمزج بين السخرية والتمرد، وبين السياسة والخيال الرقمي.

المغرب… حين التقت الظاهرة العالمية بسياق محلي خاص

في المغرب، وُلدت نسخة محلية من الظاهرة داخل سياق متفرد.

فجيل Z المغربي لم يخرج من فراغ، بل من تراكم خيبات أعقبت دستور 2011.
فقد كانت التطلعات آنذاك هائلة، والآمال مفتوحة على أفق ديمقراطي وتنموي مشترك، لكن المسار انقسم إلى جناحين غير متوازيين: جناح تنموي حقق إنجازات ضخمة في البنى التحتية والطاقة والرياضة، وجناح ديمقراطي تعثّر في الترجمة المؤسساتية، فاختل التوازن بين النجاح المادي والعدالة الاجتماعية.

في حياة هذا الجيل، تجاور مشهدان متناقضان: بلد يصنع الموانئ العملاقة والمشاريع الاستراتيجية، لكنه يعجز عن إنقاذ المدرسة والمستشفى.

وهذا التناقض هو الذي فجّر ما يمكن تسميته بالقطيعة الجيلية: جيل لا يحتج من أجل الخبز فقط، بل من أجل المعنى؛ يريد أن يفهم لماذا ينجح الوطن في المشاريع الكبرى، ويفشل في خدمة مواطنيه البسطاء.

تراجع الوسائط وولادة جيل “ما بعد المؤسسات”

ساهمت السنوات الأخيرة في تفكيك شبكة الثقة التي كانت تربط الدولة بالمجتمع: الأحزاب السياسية تآكلت صورتها، المجتمع المدني فقد بريقه،
الإعلام المستقل تقلّص تأثيره، والنقابات أصبحت تُرى كامتداد للمصالح لا كأداة دفاع.

في هذا الفراغ، نشأ جيل يرى نفسه وجهاً لوجه مع السلطة، دون أحزاب أو مؤسسات تتوسط بينهما.

جيلٌ رقميٌّ لا يقرأ البيانات الرسمية، بل يصنع روايته بنفسه، ويفضّل “الترند” على البلاغ.

إنه جيل “ما بعد السياسة” الذي يحتج خارج الشرعية الكلاسيكية، ويصوغ مفهومًا جديدًا للتمثيل يقوم على الشارع، لا الصندوق.

من غياب القيادة إلى عودة الرموز القديمة

لكن الحركات التي تولد بلا تنظيم سرعان ما تبحث عن رموز.

وحين يغيب التأطير الداخلي، تُستعار المرجعية من الخارج.

في المغرب، تحوّلت بعض الأسماء ذات الصيت الرمزي — من معتقلين سابقين، ونشطاء من جيل 20 فبراير، وصحفيين معروفين بخطابهم النقدي — إلى مراجع غير رسمية توجه المزاج العام للشباب ولو من بعيد.

يكفي أن ينشر أحد هؤلاء تدوينة مؤيدة للاحتجاج حتى تُتداول كأنها “شهادة شرعية” للغضب الجماعي.

هكذا تحل الرمزية محل الشرعية، ويتحوّل التعاطف إلى تفويض سياسي غير مقصود.

وحين تمتزج الرمزية بالنقمة، يصبح الخطر قائمًا: ليس في العنف بحد ذاته، بل في إعادة تعريف الشرعية السياسية خارج المؤسسات، أي في “الشارع الافتراضي”.

وهنا تظهر المقارنة المقلقة مع بعض التجارب التاريخية، مثل الخمير الحمر في كمبوديا — ليس لأن جيل Z يملك أيديولوجيتهم أو دمويتهم، بل لأن الانفصال الجيلي والفراغ الفكري يمكن أن يُنتجا المسار نفسه: غضب بلا بوصلة، وعدالة بلا قانون.

حين تجاوزت سرعة الإصلاح الملكي بطء الزمن السياسي

خلال العقد الأخير، أطلق جلالة الملك سلسلة من المبادرات المهيكلة: من تعديل الدستور إلى النموذج التنموي الجديد، ومن إصلاح العدالة الاجتماعية إلى إطلاق مشاريع كبرى غيّرت وجه المدن والأقاليم.

تلك الدينامية جعلت وتيرة الفعل الملكي — خطابًا وإنجازًا — تتجاوز إيقاع الزمن السياسي، فظلّ الإصلاح في المغرب قائمًا بفضل الدفع الملكي المباشر.

لقد مثّل هذا النسق — الذي يجمع بين الرؤية الاستراتيجية والتنفيذ العملي — صمام أمان حقيقيًا، إذ مكّن من امتصاص موجات الغضب وإعادة إنتاج الثقة، كما حدث في 9 مارس 2011 ثم في إطلاق النموذج التنموي الجديد.

لكن هذا النمط من الإصلاح، مهما بلغت فعاليته، لا يكتمل إلا إذا استعاد الزمن السياسي والمؤسساتي نبضه ومصداقيته، حتى تعود الثقة إلى الفعل العمومي وتستعيد الوسائط دورها في الربط بين الدولة والمجتمع.

استعادة التوازن بين التنمية والديمقراطية

ما حدث في الأسابيع الأخيرة ليس تمرّدًا على الدولة، بل إنذار اجتماعي ضد انسداد القنوات التي كان يفترض أن تعبّر عن المواطنين.

جيل Z لم يولد ضد المؤسسات، بل في غيابها العملي.

هو ابن الإصلاح الدستوري الذي لم يُكتمل، والمواطنة التي لم تُترجم إلى سياسات تضمن الكرامة اليومية.

لقد حذّر جلالة الملك مرارًا من ترك “الفراغ”، مؤكدًا أن “المؤسسة الملكية ستملأ أي فراغ يتركه من لا يتحمل مسؤوليته”.

لكن ذلك لم يكن دعوة إلى المركزية، بل نداءً إلى يقظة جماعية: لا يمكن لبلد أن يتقدّم بجناح واحد؛ فالتنمية بلا ديمقراطية تُنتج اختلالًا، والديمقراطية بلا كفاءة تُنتج فوضى.

إن تجاوز القطيعة الجيلية يتطلب استراتيجية ثقة جديدة، ترتكز على ثلاث ركائز مترابطة:

1. الثقة المؤسساتية: بتفعيل التأويل الديمقراطي للدستور وإعادة الاعتبار للتمثيل السياسي.

2. الثقة الاجتماعية: بجعل العدالة التوزيعية جزءًا من منطق التنمية لا ملحقًا بها.

3. الثقة التواصلية: بفتح قنوات حوار رقمية وذكية مع الجيل الجديد بلغته ومفاهيمه.

جيل Z المغربي ليس خطرًا، بل فرصة لإعادة التوازن.

هو مرآة تعكس ما لم يُنجز، وتذكير بأن التنمية الحقيقية لا تُقاس بالمشاريع الكبرى فقط، بل بقدرة المواطن على الإحساس بالعدالة والانتماء.

وإذا كانت القطيعة الجيلية قد وُلدت من فشل الوسائط، فإن المصالحة الجيلية لن تتحقق إلا بعودة الفعل السياسي إلى أصله: خدمة الناس لا السلطة.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.