إسرائيل بلا غطاء: من نصر السلاح إلى انكشاف الشرعية وسقوط سردية الدولة الاستثنائية
إعداد: ماء العينين محمد الغيث
منذ نشأتها، لم تكن إسرائيل تقدم نفسها كدولة عادية، بل كاستثناء تاريخي وأخلاقي، يجمع بين رواية الضحية التي نجَت من المحرقة، و”الحق التاريخي” الذي لا يخضع لمنطق الحدود ولا لميزان القانون الدولي. وبهذه المشروعية المركبة – الأخلاقية والدينية – استطاعت أن تتحرك لعقود بلا قيود، وأن تفلت من المحاسبة حتى حين تتجاوز أكثر الخطوط وضوحًا.
لكنّ الحرب التي اندلعت في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 لم تكن كسابقاتها، لا في حجم الصدمة ولا في أثر الانكشاف. فقد أربكت السرديات، وفضحت التناقضات، وأسقطت الغطاء الرمزي الذي طالما احتمت به الدولة العبرية في وجه النقد والمساءلة.
وما يُعطي هذا الانكشاف بعدًا استراتيجيًا خطيرًا هو أنه لم يأتِ فقط من خارج إسرائيل، بل بدأ من داخلها، حين تخلّت عن الوعد الأعمق الذي قامت عليه: أن تكون ملاذًا آمنًا لكل يهودي في العالم، وأن تظل فوق كل شيء… وفية لأبنائها.
أولًا: السقوط من الداخل… حين فشلت دولة الملاذ في حماية أبنائها
في وجدان يهود الشتات، لم تكن إسرائيل مجرد دولة، بل كانت وعدًا بالخلاص من الخوف، وضمانًا لعدم تكرار المأساة. كان يمكن ليهودي أن يحتفل في أي مكان، لكن “إسرائيل” وُعدت له كمكانٍ أخير، آمن، نهائي.
غير أن مجزرة 7 أكتوبر ضربت هذا المعنى في الصميم. فقد قُتل مئات المدنيين في وضح النهار، بعضهم في مهرجانات موسيقية، بعضهم في بيوتهم، دون أن تنقذهم الدولة التي وُعدوا بأنها لا تُفاجَأ ولا تنهار. ثم، بعد الفاجعة، لم تُعط الأولوية لا لإنقاذ الأسرى، ولا لاستعادة الجثث، بل بدا أن إعادة “الردع” أهم من استعادة الأبناء.
بل إن إسرائيل أعادت تفعيل ما يُعرف بـ”بروتوكول هانيبال”، الذي يقضي بتصفية الجنود – أو الرهائن – حتى لا يُؤسروا، وهو ما يجعل حياة اليهودي في عرف الدولة أقل قيمة من معادلة الردع السياسي.
هكذا سقطت قداسة الفرد اليهودي، وسقط معها جوهر العقد الذي ربط المجتمع اليهودي بإسرائيل.
حين تفشل الدولة في أن تكون ملاذًا، فهي تفشل في أن تكون ما ادّعت أنها خُلقت من أجله.
ثانيًا: السقوط الأخلاقي الخارجي… من خطاب الضحية إلى صورة الجلاد
إسرائيل التي طالما قدّمت نفسها للعالم على أنها التجسيد الأخير لصرخة “لن يتكرر أبدًا”، لم تعد تبدو كذلك في أعين من يتابع المجازر في غزة والضفة.
أمام الشاشات، لم يظهر “شعب نجا من الإبادة”، بل جيش يملك القوة ويُمعن في استخدامها دون تمييز، وسط حصار شامل، وتدمير للبنى التحتية، واستهداف للمدنيين والمستشفيات والمخيمات.
لم تكن هذه الصور بحاجة إلى تعليق. لقد تكفّلت الأفعال بإعادة تشكيل الوعي الغربي، خاصة لدى الأجيال الشابة والمثقفين المستقلين، بل وحتى داخل قطاعات من اليهود أنفسهم.
انهارت المشروعية الأخلاقية، لا لأنها أُسقِطت نظريًا، بل لأن إسرائيل أسقطتها عمليًا، وبكامل وعيها.
ثالثًا: سقوط الحصانة الدولية… حين فتحت العدالة عينيها أخيرًا
لعقود، كانت إسرائيل تتحرك في فراغ قانوني مقصود: قرارات مجلس الأمن تُرفض علنًا، وملفات محكمة العدل تُهمّش، ولا أحد يتجرأ على المطالبة بمحاسبة جدية.
لكنّ ما تغيّر في هذه الحرب هو أن الغطاء الرمزي لم يعد يقنع أحدًا. سقطت صورة الدولة الضحية، فباتت أدوات القانون الدولي قادرة – ولو جزئيًا – على التحرّك.
محكمة العدل الدولية أصدرت قرارات تدين الانتهاكات وتطالب بوقف فوري للعدوان.
المحكمة الجنائية الدولية أعلنت نيتها ملاحقة كبار القادة الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو وغالانت.
ودول أوروبية – منها من كان في قلب المعسكر الداعم بلا قيد – أعلنت الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، أو تستعد لذلك.
الزمن الذي كانت فيه إسرائيل فوق القانون يبدو أنه بدأ يتآكل. لأن القانون، حين يسقط عنه الخوف، ينتبه إلى ضحايا لم يكن يسمع صراخهم من قبل.
رابعًا: اهتزاز المعنى… حين بدأ يهود العالم يشككون في “وعد العودة”
حين يهتز المعنى، تهتز الثقة. وما يتردد اليوم في أوساط واسعة من يهود الشتات لم يكن مطروحًا من قبل:
هل إسرائيل ما تزال تمثلنا؟
هل ما يحدث باسمنا يُعبّر عنّا؟
وهل ما زالت الهجرة إليها وعدًا أم صدمة مؤجلة؟
تراجع معدلات الهجرة، تزايد الهجرة العكسية الصامتة، إحراج الجاليات في الجامعات والمؤسسات الغربية… كلها مؤشرات على أن الرابط العاطفي قد اهتز، إن لم يكن قد تصدّع.
إسرائيل كانت الجواب في زمن الخوف، لكنها بدأت تتحوّل، تدريجيًا، إلى سؤال في زمن الوعي.
خاتمة: إسرائيل بلا غطاء
قد تخرج إسرائيل من هذه الحرب وهي تزعم أنها انتصرت ميدانيًا، وأعادت الردع، وحطّمت البنية التحتية لعدوها.
لكن الحقيقة أن ما تحطّم – رمزيًا – كان في الداخل: صورة الدولة التي لا تتخلى عن أبنائها، ولا تساوم على حياتهم، ولا تمارس ما ناضلت، نظريًا، ضده.
تحطّم الغطاء الأخلاقي.
تحطّمت الحصانة القانونية.
وتشقّقت الجاذبية التاريخية التي بُنيت على وعد النجاة.
لقد انتصرت إسرائيل… لكنها خرجت من الحرب بلا غطاء