الحكم الذاتي بعد 2797: قراءة في كتاب يعيد بناء سردية الفعل المغربي
شكّل صدور القرار الأممي رقم 2797 منعطفًا نوعيًا في مسار قضية الصحراء المغربية، ليس فقط من حيث مضمونه، بل أيضًا من حيث ما فجّره من نقاشات وانتظارات داخل الأقاليم الجنوبية، وفي أوساط النخب السياسية والحقوقية والقبلية، بل وحتى داخل دوائر الدولة نفسها. فقد انتقل النقاش، بشكل واضح، من سؤال “مشروعية المقترح المغربي” إلى سؤال أكثر تعقيدًا وحساسية: كيف سيتم تنزيل الحكم الذاتي؟ وبأي هندسة ترابية وتمثيلية؟ ولصالح من؟
في هذا السياق بالذات، صدر كتاب «الحكم الذاتي في الصحراء المغربية: نحو نموذج مغربي للسيادة المرِنة» للباحث محمد الغيث ماء العينين، ليكون أول عمل فكري متكامل يأتي بعد القرار 2797، لا ليعلّق عليه فقط، بل ليعيد إدراجه ضمن مسار طويل من الفعل السياسي والمؤسساتي المغربي الممتد منذ سنة 1975.

كتاب في توقيت حاسم
لا ينطلق الكتاب من القرار 2797 بوصفه نقطة بداية، بل يضعه في موقعه الطبيعي كتتويج لمسار تراكمي. فالمؤلف يستعيد، عبر سردية متماسكة، تطور المقاربة المغربية منذ استرجاع الأقاليم الجنوبية، مرورًا بمرحلة إدارة النزاع داخل الأمم المتحدة، ثم التحول النوعي الذي دشّنه خطاب 6 نونبر 2005، وصولًا إلى تقديم مقترح الحكم الذاتي سنة 2007، وما أعقبه من إعادة بناء دستورية ومؤسساتية عزّزتها الجهوية المتقدمة في دستور 2011.
وفي هذا المسار، يحتل خطاب جلالة الملك بتاريخ 31 أكتوبر موقعًا مركزيًا في الكتاب، باعتباره لحظة إعادة تأطير سياسية واستراتيجية لما تحقق أمميًا، ووضعه ضمن رؤية مغربية شاملة لمرحلة ما بعد الحسم الدولي. فالكتاب يبرز بوضوح أن القرار 2797 لم يخلق واقعًا جديدًا بقدر ما عبّر عن نجاح المغرب في إقناع المنتظم الدولي بخيار اشتغل عليه داخليًا وبشكل استباقي.

من سردية النزاع إلى سردية الدولة
أحد أهم إسهامات هذا العمل هو نقله لقضية الصحراء من سردية “النزاع” إلى سردية “الدولة”. فالمؤلف لا يتعامل مع الحكم الذاتي كحل تقني أو تنازل ظرفي، بل كأداة لإعادة تنظيم ممارسة السيادة داخل الدولة الواحدة، وكجزء من مشروع أوسع لإعادة هندسة العلاقة بين المركز والجهات.
ومن هنا يطرح مفهوم «السيادة المرِنة»، ليس كشعار سياسي، بل كإطار تحليلي لفهم كيف يمكن لدولة موحدة أن تعيد توزيع وظائف السيادة (التدبير، القرار المحلي، التمثيلية، التنمية) دون المساس بوحدتها أو بشرعية مؤسساتها المركزية.
الفصل الخامس: حيث تبدأ الأسئلة الحقيقية
إذا كان الكتاب في مجمله يعيد بناء سردية الفعل المغربي، فإن الفصل الخامس يشكل قلبه التحليلي النابض، لأنه ينتقل من التاريخ والتأطير المفاهيمي إلى تفكيك الإشكالات التي فجّرها الانتقال من المقترح إلى النموذج.
1. التمثيلية: من صراع الشرعيات إلى هندسة التوازنات
لا يتعامل الكتاب مع التمثيلية بوصفها صراعًا بين “شيوخ” و”منتخبين”، أو بين “صحراويين” و”غير صحراويين”، بل يطرح السؤال الحقيقي:
كيف نبني تمثيلية قادرة على استيعاب كل مكونات المجتمع المحلي دون إقصاء أو احتكار؟
ويقترح في هذا الإطار الانتقال من منطق الشرعية الأحادية إلى منطق التوازن التمثيلي الذي يدمج:
• الذاكرة الاجتماعية والشرعية العرفية،
• التمثيلية الديمقراطية عبر المؤسسات المنتخبة،
• وتمثيلية الفئات الصاعدة: الشباب، النساء، النخب الاقتصادية، والفاعلين الجدد.
بهذا المعنى، يقدّم الكتاب أدوات لفهم السجالات الجارية حول “من له الحق في التمثيل”، دون الانحياز لأي طرف، بل عبر تفكيك بنية السؤال نفسه.
2. المجال: بين الإطار الأممي والامتداد الاجتماعي
السجال حول ما إذا كانت واد نون، طرفاية، الطنطان داخلة أو غير داخلة في مجال الحكم الذاتي، لا يُقرأ في الكتاب كخلاف تقني أو جهوي، بل كإشكال بنيوي ناتج عن تداخل مستويين:
• مستوى أممي يحدّد تراب النزاع بدقة،
• ومستوى اجتماعي–تاريخي يتجاوز هذه الحدود.
الكتاب لا يدعو إلى توسيع الإطار الأممي، ولا إلى القطيعة مع الامتداد الاجتماعي، بل يقترح حلاً مركّبًا يقوم على الفصل الذكي بين المسارات.
3. الحل المركّب: عقلانية فصل المسارات
يُعد مفهوم الحل المركّب من أكثر إسهامات الكتاب أهمية، لأنه يقدّم مخرجًا واقعيًا للسجالات الراهنة. ويقوم هذا الحل على:
• تنزيل الحكم الذاتي داخل الإقليم المعني أمميًا، دون توسيع تراب التفاوض.
• وفي الوقت نفسه، تمكين الأقاليم المجاورة (واد نون، طرفاية، الطنطان) من نفس الصلاحيات الواسعة في إطار الجهوية الموسعة، دون تسميتها حكمًا ذاتيًا، ودون إدراجها في المسار الأممي.
بهذا التصور، تصبح الجهوية الموسعة سقفًا دستوريًا قادرًا على استيعاب الحكم الذاتي، انسجامًا مع روح دستور 2011 والتأويل الديمقراطي للدستور كما ورد في خطاب العرش لسنة 2011.
من القرار إلى الرؤية الاستباقية
لا يقرأ الكتاب القرار 2797 كخط نهاية، بل كبداية لمرحلة جديدة تفرض التفكير في التأثيرات الإقليمية لتنزيل الحكم الذاتي. وفي هذا السياق، يشير – دون توسع – إلى أهمية معبر الكركرات والمبادرة الأطلسية، باعتبارهما جزءًا من إعادة تشكيل المجال المغربي في بعديه الوطني والإفريقي، ضمن رؤية استباقية تجعل من الحكم الذاتي رافعة للاستقرار والتكامل الإقليمي، لا مجرد حل داخلي.

كتاب يقدّم أدوات فهم لا أجوبة جاهزة
في المحصلة، لا يقدّم هذا الكتاب وصفة جاهزة، ولا يدّعي احتكار الحقيقة، بل ينجح في تحرير النقاش من التشنج، ويمنح القارئ – خاصة في الأقاليم الجنوبية – أدوات لفهم:
• لماذا تتفجّر هذه الأسئلة الآن؟
• ولماذا لا يمكن اختزال الحكم الذاتي في رابح وخاسر؟
• وكيف يمكن تحويله من مصدر قلق إلى أفق مشترك؟
بهذا المعنى، يشكّل كتاب محمد الغيث ماء العينين مساهمة نوعية في لحظة دقيقة، ليس فقط لأنه جاء بعد القرار 2797، بل لأنه أعاد بناء سردية متماسكة للفعل المغربي، وفتح أفق التفكير في الحكم الذاتي باعتباره مدخلًا لإعادة تصور الدولة، والمجال، والتمثيلية، والسيادة في مغرب ما بعد النزاع.